مدن: آلتا

[???? ?????? ????. ?????? ???? ?????????] [???? ?????? ????. ?????? ???? ?????????]

مدن: آلتا

By : Azhar Jirjees ازهر جرجيس

قبل عشر سنوات وفي واحد من الصباحات الخريفية الكئيبة أبلغني أحدهم بأنّي قد حصلت على موطن جديد. قال بأنّ مدينة صغيرة تُدعى آلتا، ترتفع بمقدار 65 متراً عن سطح البحر وتقع في عنق النرويج على الخارطة ستكون موطني ومحط رحالي. كنت يومذاك ضيفاً على محطة استقبال اللاجئين في العاصمة النرويجية أوسلو مع عشرات العراقيين الفارّين من الموت هناك. وكنا نتقاسم العيش في غرف ضيقة، تحوي كل واحدة منها ستة أشخاص يتناثرون على أسرّة خشبية مزدوجة. في الطابق العلوي للسرير المخصص لي كان ينام كاكا ميروان، الشاب الكوردي الوسيم الذي كاد يفقد حياته بسبب قُبلة رسمها على فم فتاته خلف سياج البيت. ورغم أنها قُبلة خائفة، يقول ميروان، إلا أنها جعلت منه شخصاً مشرداً ومهدداً بالقتل من قبل رجال القبيلة!

أنا وميروان وثمانية آخرون بُلّغنا في ذلك الصباح من قبل موظف المحطة بأنّ المدينة التي ستأوينا فيما يلي تُدعى آلتا وأنّ علينا تجهيز أمتعتنا من أجل السفر إلى هناك. متاع اللاجئ زهيد بالضرورة؛ لحاف ووسادة مع أدوات مطبخ يستلمها في يومه الأول في محطة اللاجئين. جهّزنا الأمتعة على عجالة وودعنا رفاقنا الذين لم يزالوا بانتظار توزيعهم على المدن، ثم اصطففنا في طابور أمام الباص الحكومي مثل أسرى حرب. أوصلنا الباص برفقة أحد موظفي المحطة إلى مطار غاردمون شمال العاصمة أوسلو. سألت الموظف بلغة رديئة حينذاك عن موقع آلتا: "ڤور آر آلتا؟" فردّ مبتسماً: "هيَلت نور." وأشار بيده نحو الأعلى لأفهم بأنها في أقصى أقصى الشمال. وصلنا المطار مبكرين وكان لزاماً علينا، بحسب موظف المحطة، أن نجلس أمام البوابة رقم D45 كي لا تفوتنا الطائرة كما يجري مع الكثير من اللاجئين الفوضويين. كانت اللوحة الضوئية الصغيرة في أعلى البوابة تشير إلى أن درجة الحرارة في آلتا هي الصفر المئوي، وكان صاحبي يسألني بين الفينة والأخرى عن المدينة: "تتوقع آلتا تطلع حلوة؟" كنت أجيبه بأنها جنة، أو لا بد أن تكون كذلك، فالمسؤولون يعرفون بأننا فارّون من الجحيم، ومن يفر من الجحيم لا بد أن يصل الجنة يوماً.

استغرقت الرحلة نحو "الجنة" ساعتين وخمسين دقيقة، رأيت خلالها الشمس والقمر متقابلين في السماء ذات الوقت. كانت الطائرة قد بدأت بالهبوط وطلب الكابتن ربط الأحزمة، بينما كنت منشغلاً بالنظر الى آلتا من خلال النافذة. لقد بدت جنة بكل ما للجنة من متخيَّل، بالنسبة لي على الأقل، فأنا ومنذ أن دلقتني أمي إلى الدنيا لم أرَ جبالاً رمادية يكسو قممها الثلج إلا في أفلام الكارتون؛ مغامرات نيلز تحديداً. كانت جبال آلتا الشاهقة تحيط ببحيرات زرقاء صافية مثل عيون الفتيات النرويجيات، بينما خيوط الشمس تغازل الماء بخجل. في الأعلى يسير منطاد ملون، لا شك أنّ في بطنه حبيبَين يتبادلان قُبلةً آمنة. كنت أتابع بشغف ذلك المنطاد الجميل وأحلم في صعوده ذات يوم، حتى أنّي أخذت أرسم في ذهني سيناريو العروج، لولا أنّ ميروان لكزني في خاصرتي معلّقاً على ما يرى: "خرا بْعَرْزَك كاكا أزهر، هاي صُدگ جنة!" فرددت ممازحاً: "جنّتيَش؟! كردستان أحلى." فميروان يعشق كردستان حد الثمالة.

هبطت الطائرة في مطار آلتا الصغير وكان بانتظارنا السيد أُولاف، الموظف المسؤول عن شؤون اللاجئين الجدد في المدينة. كان برفقته شخص ذو سحنة شرقية قدّم نفسه على أنه مترجم للغات العربية والكردية والفارسية. رافقناهما إلى المكتب لتلقي اللوائح والقوانين هناك، ثم قاما بتفريقنا على محال سكنانا. كانت الصدمة حين أخبرنا السيد أولاف بأنه ينبغي علينا توديع الشمس بعد أسبوعين تقريباً، إذ أن السنة تقسم في مدينة آلتا إلى قسمين لا ثالث لهما، ستة أشهر نهار وستة ليل، لكنّ الغريب في الأمر أنّ السيّد أُولاف كان يخبرنا بذلك وهو يبتسم، وحين سأله أحد الرفقاء عن السر وراء ذلك، أجاب بأننا سنعتاد على الطبيعة مع الوقت وسيُمسي الأمر مسلياً.

في بيت خشبي كبير يغفو على ضفاف بحيرة صغيرة أمسيت أتقاسم الحياة مع عشرة لاجئين غرباء. منهم من كان قادماً من الكونغو، ومنهم من إيران، ومنهم من جمهورية الأنغوشيتا، ومنهم من الكوسوفو. لم يكن فيهم عراقي سواي، أنا وميروان الذي لا يمل من الحديث عن معشوقتَيه؛ كردستان وخانزاد، صاحبة القُبلة التي أهدرت دمه. كنا نتشارك غرفة صغيرة في الطابق العلوي من البيت والأحاديث لا تنقطع حتى الصباح. كنا نطلّ، بين الأحاديث، من خلال النافذة على الثلج وهو يندف بسخاء فوق المدينة ويلبسها ثوباً ناصع البياض. أما درجة الحرارة فكان المقياس المعلق على النافذة يشير إلى الثامنة والثلاثين تحت الصفر. الظلام والثلج يغلفان المدينة بلا رحمة ولستة أشهر كاملات. كنا، ولغلاء أجور النقل وبُعد خط الباص عن محل السكن، نذهب إلى مدرسة تعلم اللغة سيراً على الأقدام. انزلقت في اليوم الأول لي في المدرسة وكُسرت يدي. ما زلت أتذكر الأمر جيداً وكأنّ شريطاً سينمائياً يمر أمام عيني؛ كان الطريق زلقاً وكان علينا الصعود نحو الجادة الرئيسة، حذّرني كاكا ميروان من رفع القدم كثيراً أثناء المسير على الثلج لكني لم أستجب فانزلقت وكُسرت يدي.

المدينة باردة وظلماء والعيش فيها، بالنسبة لمثلي، أمر شبه مستحيل. غير أنّي، وبعد خمسين يوماً، بدأت أشعر بحميمية غريبة تجاهها. بصراحة، لا أدري وما زلت لا أدري ما السبب! ربما يتعلق الأمر بالأمان الذي شعرت فيه هناك، أو أن روح المغامرة قد تلبّستني كالعادة، فأنا القادم من مدينة تسوط أشعة الشمس فيها ظهورنا مثل جلّاد ساديّ، بات لزاماً عليّ العيش في مدينة تشبه الفريزر! يزيد الطين بِلّة أنّ عدد سكانها لا يزيد على العشرين ألف نسمة وليس فيها من مكان للترفيه سوى حلبات التزلج وسباق الكلاب وهي تجرّ العربات فوق الثلج! يا لها من مغامرة!

تعلّمت التزلّج، إي والله، وصرت كل يوم بعد الانتهاء من درس اللغة أسير مسافة ٣كم تقريباً للوصول إلى حلبة كبيرة منجمدة، أرتدي العدّة وأبدأ بنقل أقدامي على الجليد بحذر. كنت أشعر بالسعادة مثل طفل شرع تواً في تعلم المشي. ابتسمت لي الأقدار إذ ذاك على غير عادتها وساقت لي شابّة آلتويّة "نسبةً إلى آلتا" تجيد الرقص بخفة على الجليد. أخذت بيدي وأعانتني على تلك المهمة الشاقة فصرت عاشقاً لحلبة التزلج، مرتاداً لها كل يوم. ليس حلبة التزلج فحسب بل المدينة بكل ما يكتنفها من ظلام وبرد، صارت معشوقتي. أنهيت كورس اللغة بعد أن أمسيت قادراً على التفاهم ورافقت تونيا، راقصة الجليد تلك، فأرشدتني إلى دروب المدينة وخباياها. لقد أرتني مشهد السماء الملونة فيما يُسمى بظاهرة الشفق القطبي. كنت أراقب بدهشة ذلك الضياء الأخضر الذي يبرق في الأفق ثم يليه الأزرق والبنفسجي وهكذا. لوحة الألوان تلك جعلتني أعشق آلتا. رحلات التخييم في الجبال وسط الثلج كانت هي الأخرى درساً مفيداً علّمني كيف أكتشف جمال الطبيعة الخفي. رأيت شمس منتصف الليل من أبعد نقطة في النرويج، كان جرفاً صخرياً تنتهي عنده اليابسة يُدعى رأس الشمال، جعله النرويجيون، على بساطته، معلماً سياحياً وبنوا فوقه مقهى ومطعماً ومكتباً للبريد. ذهبت هناك برفقة تونيا وميروان، شربنا القهوة وزرنا شاخصاً أنيقاً تعتليه كرة حديدية كبيرة تشبه تلك الكرة الأرضية التي نتعلم منها أسماء المدن في درس الجغرافية. حضرت سباق الكلاب بعد ذلك وهي تجر عربات التزلج وصفّقت لكلبِ انجمد شارباه من شدة البرد. لقد اقتربت من الطبيعة بقساوتها مثل دب قطبي لا يكترث لفترات السبات.

وبعدما انقضت أشهر الظلام الستة جاء الصيف بضيائه المبهر، فخلعت آلتا ثوبها الأبيض حينذاك وارتدت ثوباً ملوناً يطغي عليه الأخضر والأصفر. لقد أنعمت عليها الطبيعة بوردة صفراء تشبه النرجس غير أنها بلا رائحة. ليس الأمر غريباً فالورد في أوربا عديم الرائحة عادةً. كانت ساعات النهار الأربعة والعشرون تنعش الروح، والشمس لا تفارق السماء. ذات ليلة خرجنا، نحن سكنة بيت اللاجئين، نلعب الكرة خلف المنزل بعد منتصف الليل بساعتين، فليس في المدينة ليل. لقد أغرانا الضياء بلعب الكرة، لكنّ سيارة الشرطة جاءت بعد نصف ساعة ومنعتنا من اللعب بداعي منع إزعاج الجيران، علماً بأنّ ليس لنا غير جارِ عجوز يقطن وحيداً في منزله. يبدو أننا قد نغّصنا عليه منامه فاشتكانا إلى الشرطة.. نستاهل.

أدمنت لعب الكرة هناك وكأنّي لم ألعبها من قبل، امتلكت سنّارة ومارست صيد السلمون بسعادة بالغة. اشتريت دراجة هوائية مستعملة ورافقت تونيا في رحلات إلى الغابة، كان يحضرنا الشيطان فيها مشكوراً. حفظت المدينة شبراً شبراً بغاباتها ودروبها وأحيائها المتناثرة. وفي النهاية ثبت لديّ صدق ما قاله السيد أُولاف بأننا سنعتاد على الطبيعة مع الوقت وسيمسي الأمر مسليّاً. نعم، مسلياً كان العيش في آلتا، يتحول المرء فيه إلى كائن فصليّ يجيد التحايل على الطبيعة والعيش معها بسلام. وبعد ثلاثة أعوام سعيدة هناك، هبطت نحو الجنوب للدراسة والعمل، غير أنّي ما زلت كائناً فصلياً، أرتدي الملابس الثقيلة شتاءً وألعب في الصيف كرةَ منتصف الليل.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • الكوخ الهنغاري

      الكوخ الهنغاري
      في خريف العام ٢٠٠٦، وصلتُ سيراً على الأقدام إلى هنغاريا. كنتُ وحيداً أمشي على غير هدىً بين الغابات، حتى لاح لي من بعيد خيالُ كوخٍ عتيق. كان كوخاً منفرداً قرب حظيرة للحمير، تنبعث منه رائحة شواء غريبة.

استراحة مخيّم: روايات من مخيم الرشيدية والبحر

لا نعرف الكثير حول سبب تواجد المخيمات الفلسطينية حيث هي اليوم. كما لا نعرف المسارات التي اتخذها سكانها من فلسطين إلى تلك المخيمات. كثيراً ما نظن أنّ اللاجئين، نقلوا عند وصولهم، مباشرة إلى الخيام التي أصبحت في وقت لاحق "مخيمات." انطلاقاً من أفكار حول اللجوء وسُبل كتابة تاريخ مغاير للمخيمات الفلسطينية في لبنان، عملنا في مجموعة الدكتافون على مشروع "استراحة مخيم" الذي تم تطويره بتكليف من مقر دار النمر للفن والثقافة في بيروت خلال فعاليات مهرجان قلنديا الدولي لعام 2016.

عملُنا في مجموعة الدكتافون هو مزيج من الفن الحيّ مع البحث المتعدد الحقول. يتشابك البحث والفن الحيّ منذ الفكرة الأولية للمشروع ثم أثناء تطويرها ولاحقاً في مشاركتها مع الناس. من هذا المنطلق وعلى غرار العديد من المشاريع الفنية التي تنجز مع مجتمعات محلية بدلاً من المشاغل الفنية، تكون منهجية المشروع بأهمية نتيجته.

اهتماماتنا الشخصية والفنية هي أن نبحث بأماكن مهمشة خارج مركزية العاصمة وأن نحكي عن علاقتنا وحقنا بالوصول للبحر والاستمتاع به كمكان عام مفتوح للجميع. في صيف ٢٠١٢ قدمنا مشروعاً كان عنوانه "هذا البحر لي" دعى الجمهور إلى رحلة بقارب صيد من ميناء عين المريسة الى دالية الروشة المتنازع عليها. كان المشروع عبارة عن رحلة على قارب يتوقف عند كل موقع على الشاطىء ليحكي قصته والقوانين التي ترعاه والتعديّات عليه وكيفية استعماله من قبل الناس. في عام ٢٠١٥، قدمنا مشروعاً بالاشتراك مع مجموعة شبابية وناشطة من مدينة صيدا تحت عنوان "مشي تَ دلّيك" حول علاقة سكان صيدا بالمساحات المشتركة والتغيّرات التي تطال مدينتهم من خلال التخطيطات والمشاريع التي تترك تغييراً جذرياً بالأحياء وبشكل خاص على شاطئ صيدا.

يستكمل "استراحة مخيم" اهتمامنا بالبحث في علاقة الأفراد والمجموعات بالبحر وبحيّزهم الطبيعي. المشروع هو عبارة عن تركيب فيديو قمنا بتطويره مع أربعة من سكان مخيم الرشيدية. صوّرنا مساراتهم اليومية من منازلهم باتجاه البحر حيث قادنا كل مُشارك ومُشاركة نحو المشهد الأخير ليختار مكان تواجده مع خلفية البحر. نسج هؤلاء، على طول الطريق، قصصاً عن تاريخ الأرض ووصولهم إلى المخيم وصراعهم للعمار والحياة اليومية في مخيم مفصول عن المدينة تحدّه حقول زراعية والبحر.

يُعرض هذا العمل في غرفة صغيرة حيث يجد الجمهور نفسه وسط أربع قصص تبرز كل واحدة منها على حائط في الغرفة. يبدأ التصوير في منزل كل واحد من المشاركين ثم ينتقل معهم في أزقة وشوارع المخيم حتى الوصول إلى البحر.

أملى تواجُدنا في مخيم الرشيدية في تلك الأيام المحددة نتيجة المشروع. اللقاءات التي أجريناها مع أناس مختلفين كنا قد التقيناهم عن قصد أو عن طريق الصدفة كشفت لنا فضاءات المخيم من خلال الحياة اليومية هناك. كزوار للمخيم، كان ملفتاً لنا التناقض بين انفتاح المكان على البحر والحقول الزراعية المجاورة مع مدخل المخيم الذي هو كناية عن نقطة تفتيش للجيش ونقاط المراقبة التي تضم حتى شاطئ البحر. وضّح هذا التناقض في المكان القمع الملثم والحرية الوهمية التي تعطى لسكان المخيم.

تاريخ الأرض والوصول إلى المخيم

"بحصار المخيمات، لولا البساتين كانت الناس ماتت من الجوع." هكذا يحكي سكان مخيم الرشيدية الذي يقع على الساحل اللبناني جنوب مدينة صور. مخيمٌ محاط بأراضٍ   زراعية وبساتين حمضيات، جميعها تُروى من قنوات مياه تاريخية مصدرها منطقة رأس العين.

يحتضن الموقع برك رأس العين لمياه الشفة، اثنان منها في تلة الرشيدية والتي تعد أحد أقدم العيون على الساحل اللبناني.1 كما تشكل منطقة رأس العين وتلة الرشيدية جزءاً أساسياً من "صور القديمة" التي امتدت على الساحل. سَكنها أهل صور قديماً لكثرة المياه فيها وإمكانية زراعتها، فيما تركوا صور التي نعرفها اليوم مكاناً للحكم والعبادة. يُروى أنّ اسكندر المقدوني هدم صور المبنية على تلة الرشيدية لأن الكاهن رفض إدخاله إلى المعبد. ما تبقى من صور القديمة هي قرية الرشيدية.2

خلال سنوات الانتداب الفرنسي، وهبت السلطات الفرنسية أراضٍ كثيرة في مدينة صور للوقف الكاثوليكي.3 من ضمن هذه الأراضي الموهوبة كانت أراضٍ  على تلة الرشيدية التي كانت تحوي كنيستين. هنا أنشأت السلطات الفرنسية في العام 1936 مخيماً لمئات اللاجئين الأرمن الفارين من المجازر في منطقة كيليكيا. وصول اللاجئين الأرمن تبعه بعد حوالي العقد من الزمن وصول اللاجئين الفلسطينيين. روَت لنا امرأة مسنّة من الرشيدية، أنها وصلت هي وعائلتها في البداية من شمال فلسطين إلى بلدة مارون الراس الجنوبية: "من مارون الراس رحنا على بنت جبيل ومن هونيك على البص بمدينة صور. لقانا القائم مقام. كان في قطار يوصل لهون. نطرناه. ركبنا فيه صوب سوريا. وصلنا على حما، لقينا سيارات أخدتنا على الجامع. كان في كتير فلسطينية، قعدنا ٧ أيام. جابوا سيارات وسألوا كل واحد شو بيشتغل وأخدوه على بلد يشتغل فيها. أبوي قال بده يروح على الشام. قالوله ممنوع. رحنا على حوران. رجعنا على الشام وبعدين حملنا حالنا ورجعنا على لبنان وقعدنا ببلدة تبنين لأن كان عنا قرايب فيها".

ولكن في العام 1950 أي بعد بضع سنوات من سكنهم في القرى الجنوبية - اتخذت السلطات اللبنانية قراراً بإجلاء الفلسطينيين القاطنين في القرى الجنوبية (تبنين والمنصوري والقليلة وبنت جبيل وغيرها) ونقلهم إلى مخيمات، من ضمنها مخيم أنشأته في محيط المخيم الأرمني القديم. كان عبارة عن شوادر. قام الأهالي بتثبيت الشوادر عبر بناء حيطان من طين وتراب. كانت الحمّامات مشتركة؛ حمام لكل ثمانية بيوت على بعد خمسين متراً من البيوت.

بعد مرور حوالي العقد على مجيىء الفلسطينيين، بدأ اللاجئون الأرمن بالرحيل وأخذ الفلسطينيون مكانهم". كان هناك 311 بيتاً أرمنياً، بقي منها 200 بيت. وهذا ما يُسمى اليوم بالمخيم القديم.

أما المخيم الجديد، فقامت ببنائه منظمة الأونروا في العام 1963 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون في "ثكنة غورو" في بعلبك. قررت الحكومة اللبنانية إخلاء الثكنة، وتم بناء "المخيم الجديد" في الرشيدية على مقربة من "المخيم القديم". كان عبارة عن شبكة طرقات عمودية وأفقية، فيها وحدات سكنية، كل منها ذات مساحة 99 متر مربع تحتوي على ثلاث غرف وحمام وساحة. انتقل إليه سكان ثكنة غورو، بالإضافة إلى البعض الذي ترك المخيم القديم للسكن هنا. لكن الغرف كانت صغيرة والسقف منخفض جداً. مع الوقت، أغلبية العائلات هدمت هذه البيوت وعمرت بديلاً عنها.


على مر العقود، عمل جزء كبير من سكان الرشيدية في البساتين المحيطة، إمّا في الضمان الموسمي أو كعمال مياومين، واستفادوا بذلك من كثرة المياه في المنطقة. يشرح أبو حسين، أحد الأشخاص الذين عملنا معهم في هذا المشروع:
"لو ما عنّا ميّ بالمخيم ما كنا عشنا. عنا ميّ كتير ومن زمان: قنايا راس العين ونهرين وبرك. من البرك منضخ ميّ للخزان ومن الخزان للشبكة وبعدين للبيوت والأراضي الزراعية."

بعد العام 1969 وإعطاء الشرعية لوجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، عمل سكان الرشيدية في أراضي الجفتلك المحيطة بالمخيم من دون دفع رسوم الضمان. كل مزارع اختار أرضاً وزرعها وباتت عرفياً تعتبر ملكاً له. فأراضي الجفتلك ذات ملكية عامة، منها أملاك لوزارة المالية ومنها للتربية وأغلبيتها ملك للجمهورية اللبنانية. لكن زراعة أراضي الجفتلك اقتصرت على الحشائش: علت، فاصوليا، خس، بقدونس، كزبرة، فجل، وغيرها. وذلك، بسبب عدم ملكيتهم لهذه الأراضي، مُنعوا من زراعة الأشجار المثمرة فيها. فبحسب قانون الملكية اللبناني، من يزرع شجرة يملكها.

اليوم، تخضع هذه الأراضي الزراعية التي يتميّز بها المخيم لتحوّلات كثيرة بسبب معركة العمار بين أهالي المخيم والسلطات اللبنانية.

\"\"

معركة العمار

بسبب قربه إلى فلسطين وموقعه على الشاطىء، لطالما حمل البحر فدائيين من الرشيدية في قوارب إلى إسرائيل للقيام بعمليات عسكرية، فتعرّض المخيم لهجمات إسرائيلية عديدة، أبرزها في 1973، 1978، 1982 حيث تم تدمير 600 ملجأً ونزوح خمسة آلاف نسمة.4

بعد العام 1985، قامت الدولة اللبنانية بالسيطرة الكاملة على مداخل المخيم واقتصر دخول السكان على مدخل واحد يحرسه الجيش اللبناني. هذا الحصار يعيشه المخيم حتى اليوم، ويأخذ أشكالاً مختلفة. مُقيّد ضمن حدود واضحة والبحر، ليس بإمكان المخيم أن يتوّسع عمرانياً، إنما يحصل ذلك على حساب المساحات المشتركة، مثل ملعب كرة القدم وشاطىء البحر، وعلى حساب الأراضي الزراعية.

"أول ملعب فوتبول بالمخيم كان هون، بقلب المخيم. كان حلو لأن كنا نقعد على البرندات ونتفرج على الماتش ونشجعهم. بعدين صار المخيم يضيق علينا، وبلشت هالناس كل شوي تعمر على أرض الملعب. هلق بطل موجود. صار فيه بدل منه ثلاثة، بس كل واحد عملته منظمة. القديم ما كان محسوب على حدا. أهل المخيم هنني يللي عملوه." هكذا روَت منى، التي تسكن بالقرب من حيث كان ملعب كرة القدم الأول في المخيم. حدثتنا أيضاً عن بدء عمليات البناء في هذه الأيام على الأراضي الزراعية. "الطلب على البيوت عم يزيد، خصوصاً مع مجيء اللاجئين من سوريا. صار مربح أكثر الواحد يعمر ويأجر من أنه يزرع. شوفي حارة الكواكنة مثلاً، كانت زراعية واتعمرت. صاحب الأرض سوّرها من شي عشر سنين (وضع يد يعني) وصار يزرعها. من خمس سنين صار يعمّر فيها. يعمل غرف ويأجر للمهجرين السوريين. هو بالأساس عمّر الغرفتين استراحة. بس ما مشي حاله. أجرهم بعدين سكن. وكمان صار يبيع شقف أرض والناس تعمر." منى وغيرها كثر أيضاً حكوا عن شاطىء الرشيدية.

تعرّض شاطىء صور ومن ضمنه شاطئ الرشيدية الى عملية شفط الرمول خلال الحرب الأهلية. عرّض هذا البيوت المواجهة للبحر الى خطر الهدم والتلف بسبب الأمواج. يواجه سكان المخيم هذه المشكلة من خلال بناء جدار بين البيوت والواجهة البحرية باستخدام الردميات الناتجة عن عمليات حفر الطرقات. بالرغم من قباحتها، فهي حل مناسب لأنها لا تكلّفهم شيئاً سوى نقلها. سكان الواجهة الأمامية في معظم الأحيان هم الأفقر في المخيم. اختاروا السكن على الشاطىء لتدنّي سعر الأراضي فيه. روى لنا صاحب استراحة على البحر: "أهلي دوّروا على الرخص مش على البحر." كما شرح أن جزء كبير من بحر الرشيدية الآن عبارة عن ردميات مكدسة على طول الشاطىء، بالإضافة إلى نفايات يتم إلقاؤها في قنوات المياه التي تصب في البحر، ليعود الموج ويلقيها على الشاطىء. الأونروا لا تقوم بتنظيف الشاطىء. يقتصر عملها على تجميع النفايات من الحاويات الموّزعة في الأحياء، لترميها لاحقاً في المكب المتواجد على أطراف المخيم. يتم نقلها فيما بعد الى مكب في بلدة قانا، وذلك بعد أن تمّ إغلاق مكب راس العين الغير صحي والموازي للبحر في العام 2015.

معركة العمار أيضاً تعقدت بقرار الدولة اللبنانية منع إدخال مواد البناء إلى المخيم من دون الحصول على تصريح، مما يأخذ وقتاً طويلاً وفي معظم الأحيان لا يُمنح. يصف سكان المخيم. هذا المنع على أنّه تواطؤ بين المنظمات الفلسطينية وبين السلطات اللبنانية التي تعطي تراخيصاً فقط للنافذين في المخيم الذين بدورهم يبيعونه للسكان بأسعار مضاعفة. معركة العمار تطال مخيمات الجنوب كلها. آخرها كان خبر إصابة شخصين أحدهما شرطي في بلدية صور والآخر فلسطيني من سكان مخيم البصّ، على خلفية محاولة إدخال مواد بناء إلى المخيم من دون تصريح.

هذه الحكايات بالإضافة للكثير غيرها كان قد عبّر عنها المشاركون الأربعة في مشروع "استراحة مخيم." أردنا العمل على مادة بحثية تساهم بصياغة خطاب مختلف عن المخيمات الفلسطينية في لبنان.

المشاريع المجتمعية

المشاريع المجتمعية ليست ببسيطة. السياسات الأخلاقية للمشروع تكون من خلالها على المحك. كيف يمكننا أن نخلق فناً مع المجتمع المحلي وليس فقط عنه؟ كيف يمكننا تمثيل الناس بالطريقة التي هم يريدون أن يتم تمثيلهم بها مع الحفاظ على فكرة العمل الفني؟ هذه الأسئلة تصبح ملحة أكثر حين نتعامل مع مجتمع مهمش أرادت دولتنا أن تعطينا امتيازات عليه.

العمل مع مجتمع محليّ يعني أن نسمح للقاءات أن تحدث وللعمل الفني أن يتغيّر وللجدول الزمنيّ أن يتم تحويله وللقصص أن تُكتشف من خلال اكتشافنا للمكان. على سبيل المثال، كانت فكرتنا الفنية أن ندعو كل شخصية مشاركة في المشروع إلى أن تصمم المشهد الأخير في الفيديو وتختار خلفيتها مع البحر. في الواقع، لم يتجاوب أحد مع هذا الاقتراح لأسباب عديدة كإرادة الابتعاد عن النظرة الرومانسية للبحر والقرب الجغرافي من فلسطين.

العمل مع مجتمع محلي يعني أيضاً أن نبحث عن الأسباب الشخصية والسياسية وراء تقاسم هذه الحكايا معنا واحترام هذه الأسباب مع إبقاء مسافة نقدية في تعاطينا معها. تقول إحدى الشخصيات المشاركة إنّ غرضها من مشاركة الناس لقصة وصولها إلى المخيم وللعنف الذي كانت عائلتها ضحيته خلال حرب المخيمات مع أحزاب لبنانية أنّ على الفلسطينيين أن يروا قصصهم كي لا تموت معهم.

مثل العديد من مشاريع مجموعة الدكتافون، وجدنا أنّ سرد تاريخ المساحات هو مفتاح لفهم الحالة الراهنة للأمور. روايات الفلسطينيين الذين هُجروا إلى لبنان في عام 1948 تكشف عن وجود نقص في التنظيم من قبل الدولة اللبنانية التي نشهده حالياً مع اللاجئين السوريين الذين يصلون بأعداد كبيرة منذ عام 2011. تروي أم خليل وصولها إلى سوريا بعد أن توقفت مع عائلتها في لبنان وبالتالي أجبرتهم السلطات السورية العودة إلى لبنان إذ كان هو أول ميناء لوصولهم. اليوم تُعرف هذه الممارسة باسم «قانون دابلن» الذي ينص على ترحيل اللاجئين إلى أول ميناء حيث تم تسجيلهم في أوروبا بغض النظر عمّا يفضلون أو يخططون له.

نذكر من خلال هذا المشروع أن تجاهل آلام وخيارات الناس والعنصرية المتعمدة وشيطنة اللاجئين في القرى والمدن اللبنانية، والدعوات لتجميعهم في مخيمات يتم السيطرة عليها بسهولة وبالتالي الهجوم عليها بسهولة، ليس بشيء جديد. في حين أن العالم كله مشغول بمناقشة ما يسمونه أزمة اللاجئين، نأمل أن نتذكر أهمية الاستماع إلى أولئك الذين هم بأنفسهم في قلب هذه الأزمة. كما ونأمل أن نتذكر أن ترك الناس في طي النسيان مع موارد وحقوق قليلة ليس حلاً بل عدم وجود
أي حل.

 

لقراءة هذا المقال باللغة الانجليزية، اضغط/ي هنا


بحث وإدارة فنيّة وكتابة المقال: تانيا الخوري وعبير سقسوق
كاميرا: كرم غصين
مونتاج: علي بيضون
تصميم صوت: مجد الحموي
المشاركون: حسين الزيني وخديجة المصري وحسن عجاوي وزهراء فاعور

مصادر البحث
1 من تقرير عن برك رأس العين من إعداد "الجنوبيون الخضر"
2 جميع المعلومات عن صور القديمة استندت الى مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
3 من مقابلة قمنا بها مع المهندس والباحث نصر شرف الدين في حزيران 2016
4 Rebacco Roberts, Palestinians in Lebanon: Refugees Living with Long-Term Displacement, Journal of Refugee Studies (2011)24 (2): 416-417

- مقابلات مع سكان من مخيم الرشيدية
- صوَر جويّة وخرائط
- إفادات عقارية من الدوائر العقارية في مدينة صور
- مقابلات مع المهندس نصر شرف الدين والمهندس والباحث اسماعيل الشيخ حسن والمهندسة والباحثة لينا أبو رسلان
- تقرير الأونروا عن مخيم الرشيدية